مشكلة الفساد الإداري والمالي لا تكمن فقط في مساسه لجملة من الحقوق المتعلقة بعدم تساوي الفرص وفقدان العدالة الاجتماعية وهدر المال العام، بل عندما يتفشى ويستوطن في مجتمع ما فإنه يتحول إلى واقع يضطر الناس للتعامل معه لحين ثورةِ غضبٍ تُكسَر فيها حواجزُ الخوف وتُقدَّم فيها التضحيات.
والكارثة الحقيقية أن الفساد لا يتوقف عند حد فقدان العدالة الاجتماعية، بل ينمو حتى لا يتوقف عند أي حد؛ فغيابُ الضمير لدى الفاسدين يجعلهم حريصين على بقاء الأوضاع التي تحقق لهم المكاسب حتى بدت في نظرهم وكأنها حقوقٌ لهم فيلجأون للدفاع عنها بكافة الوسائل التي تتطور إلى مرحلة خلق صراع داخل المجتمع، يتفشى فيه الخوف والنفاق، ليس فقط النفاق الذي يدفع الإنسان ليكون جزءًا من منظومة الفساد -ليحقق ولو فتات من مكاسب مثل الآخرين- بل لأجل أن يأمن على نفسه.
المجتمعات التي يتفشى فيها الفساد وأعاقة التنمية وتسبَّبَ في تفشي الفقر، ثم تفشَّتْ معه الجريمةُ وتجارة المخدِّرات لتطحن تلك المجتمعات أكثر، فما بين عصابات صغيرة تدفع الرشاوى لرجال الشرطة، إلى عصابات مافيا تتحالف مع مسؤولين كبار في الدولة.
وبين هؤلاء فئات مُهمَّشة تقاتل لأجل لقمة العيش داخل بيئات موبوءة بالفساد والجريمة، وشوارعُ مليئة بالمشردين وأطفال الشوارع، والدعارة وحتى جنس الأطفال، فالفساد مُنْتَجُ غياب الضمير والأنظمة، يقتل كلَّ قيمة إنسانية وأخلاقية في المجتمعات.
في مثل تلك المجتمعات فسادٌ تفشَّى فأصبح واقعًا، ثم تمادى أكثر ليطال كل شيء أحيانًا حتى القضاء، فالقاضي الذي لا يصبح ضمن منظومة الفساد قد يصبح عرضة للخطر على حياته وأمن أسرته.
يغيب الضمير الإنساني، في بيئات فاسدة غُيِّبَت فيها الأنظمة وأُضْعِفَ القضاء؛ فيجد الإنسانُ الفاسدُ لنفسه كافة المبررات لارتكاب أبشع الجرائم من قتلٍ، واغتيالاتٍ، واختطافٍ، وسَجْنِ أبرياء، تصبح الحياة أبشع من شريعة الغاب في صراعٍ لأجل ثراءٍ ونفوذٍ لا يتحقق إلا على أشلاء حياةِ أو حقوقِ وكرامةِ آخرين، وأحيانًا فقط لأجل فتات من حياة أفضل.
دولتان مثل البرازيل والمكسيك تُعدَّان أنموذجًا لهذه الحالة من تفشِّي الفساد.