التأمين الطبي: بين الحق الإنساني والامتياز الوظيفي (1)
في كثير من الشركات والمنشآت الوطنية، نلحظ تفاوتاً في جودة التغطية أو شبكة المستشفيات والعيادات المتاحة للموظفين، تبعاً لمناصبهم الوظيفية حتى، وإن كانت الفئات المتضررة من هذا التمييز ربما أقدم بكثير في سنوات الخدمة، وربما طبيعة عمل بعضهم شاقة أكثر من هؤلاء الحاصلين على مميزات أفضل، وربما هو الأكثر استحقاقاً للترقية والحصول على منصب أعلى، ولكن قد يُحرم بعض الموظفين من هذه الترقية وما يستتبعها من المزايا، بسبب سياسات داخلية غير شفافة أو معايير غير موضوعية، فعدا الأضرار على المصلحة العامة، فتضرر الموظف مضاعفاً بحرمانه من نفس مستوى الرعاية الصحية التي لا يجوز أساساً التمييز فيها باعتبار أن الموضوع ليس امتيازات وظيفية، بل هي حقوق أساسية تتعلق بجوهر قيم مبادئ الإنسانية وكرامة الإنسان وأخلاقيات العمل والتعامل العادل للجميع.
فوجود اختلافات في الوصول للفحوص الطبية أو العلاج قد يؤدي إلى ما يطلق عليه ”الفوارق الصحية”، وهو نتيجة طبيعية لأي تمييز أو حرمان من التأمين الطبي خلال العمل، أو بعد التقاعد، وإذا عانى كثير من المجتمعات من مشكلة ”الفوارق الصحية” كنتيجة طبيعية للتمييز في حق الوصول للرعاية الصحية على نحو متساو، فإننا في المملكة العربية السعودية لا ينبغي السماح بحدوث مثل ذلك فنحن دولة قامت تشريعاتها وأنظمتها بما يضمن حقوقاً متساوية للجميع ورؤية 2030 الذي أطلقها ولي العهد رئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان حفظه الله ركزت إلى حد بعيد على كثير من القضايا التي تمس الإنسان أولاً بما في ذلك “جودة الحياة” التي على رأسها بلا أدنى شك الرعاية الطبية، التي يجب على المنشآت الوطنية أن تتحمل دورها في ذلك من خلال تأمين طبي شامل لجميع موظفيها يحقق مستوى رعاية صحية متساوية للجميع، حتى تكون تلك المنشآت والشركات والبنوك جزءاً فاعلاً في تحقيق أهداف الرؤية 2030 وبدون أدنى شك أن الحد من الوصول إلى المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية أو التمييز في التأمين الطبي في المنشآت لا يتماشى من أهداف تلك الرؤية المباركة.
المسؤولون في المستويات الإدارية الأعلى والرؤساء التنفيذيين ورؤساء مجالس الإدارات ربما يمنحون أنفسهم الكثير من الامتيازات، ولكن من غير المقبول أن يوزعوا المجتمع الوظيفي داخل المنشأة إلى فئات، فئة يستحقون وأسرهم رعاية طبية أفضل، وآخرين لا يستحقون نفس مستوى الرعاية، فيُحْرَمُون من العديد من المستشفيات والمراكز الطبية المتميزة بناء على التمييز الطبقي الوظيفي الذي يمس جوهر الحقوق الطبيعية للإنسان وقيم ومبادئ العدل والمساواة ناهيك عن حجم البذل والعطاء الذي يقدمه تلك الفئات التي يُهَمَّش حقوقها في رعاية صحية متساوية.
ولا بد من الإشارة إلى أنه قد يوجد تضارب مصالح داخل المنشأة نفسها، فلو افترضنا إنَّ ثمة قراراً متخذاً سلفاً لميزانية التأمين الطبي، وحدث أن ارتفعت تكاليف التأمين الطبي، فإن أصحاب المستويات الإدارية العليا ومتخذي القرار قد يلجؤون إلى خفض شبكة مزودي الخدمة الطبية ومستوى الرعاية الصحية لموظفيهم، بينما هم يحتفظون بخدمات طبية أعلى بكثير من حيث مستوى الرعاية وتنوع الخيارات والعلاج لهم ولأسرهم في أفضل المستشفيات التي حُرم الغالبية العظمى من الموظفين وأسرهم منها، رغم التكلفة الباهظة لمستوى التأمين الطبي الذي خصوا به أنفسهم.
والتكاليف تلك تصبح أكثر ارتفاعاً كلما ارتفعت المزايا التي يحصل عليها المسؤولين التنفيذيون وأسرهم لأنه كلما ارتفع مستوى وثيقة التأمين لا يكتفي متخذو القرار بما يحصلون عليه من رعاية طبية حرموا إياها موظفيهم وأسرهم، بل تزداد التكلفة كلما ارتفع المنصب فبدلاً من إقامته أو أحد أفراد أسرته في جناح عادي قد تكون إقامته في أجنحة فندقية أكثر كلفة، تلك الكلفة التي يدفع ثمنها العاملون، والذين يحملون على عواتقهم الكثير من الأعمال والمهام والمسؤوليات.
فيما يلي محاولة توضيح أكثر:
على سبيل المثال في إحدى المنشآت الوطنية السعودية الكبرى قبل قرابة ثلاثة أعوام لديهم عدة فئات لوثائق التأمين، وهي كما يلي:
B وهي الفئة الأدنى
A أعلى بقليل في المميزات والشبكة الطبية، وكذلك غرفة خاصة في حالة التنويم.
VIP شبكة طبية أوسع والإقامة في جناح في حالة التنويم.
أما الفئات الأعلى من ذلك فهي ELITE (النخبة) VIP1 شخصية مهمة جداً رقم (1) (أعلى من VIP المشار إليه أعلاه)، أما VVIP فشخصية مهمة جداً جداً.
كل هذه الفئات ليست لعملاء مميزين مثلاً في شركة ما، وليس لأن المصنفين ضمن هذه فئات خدموا المنشأة لمدة مثلاً ثلاثين أو أربعين عاماً، وقدموا تضحيات أو ربما يعملون في ظروف صعبة وغير عادية أو طبيعة عملهم تجعلهم معرضين للأخطار، وليس كونهم حققوا إنجازات للمنشأة، بل ربما بعضهم لم يكمل عامه الأول بعد، ولكن الأقدار شاءت أن يصبح مسؤولاً تنفيذياً في جناح مكتبي فاخر يتخذ فيه القرارات، بل وربما بعضهم أسهم في إخفاقات أو عدم تطوير المنشأة؛ مما أثر في وضعها المالي، ولكن الثمن يدفعه من لا ذنب له في إخفاقات هؤلاء المسؤولين.
بسبب غياب الشفافية لا أعلم ما هي الميزات الأخرى التي يحصلون عليها، فعلى سبيل المثال أحد المستشفيات لديهم جناح وجناح تنفيذي وجناح شبه ملكي وجناح ملكي، وربما حد تغطية أعلى وتغطية علاج أسنان أعلى أو مفتوح والعلاجات التجميلية أو حتى ربما تغطية علاج في الخارج، بسبب غياب الشفافية لا يعلم الكثير منا ما هي تلك الميزات التي يمنحونها لأنفسهم، ويحرمون غيرهم حتى من الحد الأدنى منها وبكثير، مستغلين غياب نقابات عمالية لدينا، ونحن بحمد الله لا نحتاج إلى تلك النقابات فأحياناً شرورها أكثر من منافعها، وقد شاهدنا ما يحدث حولنا من فتن بسببها عندما تجاوزت فعل الدفاع عن الحقوق إلى ما هو أبعد، وثقتنا كبيرة بإذن في ولاة الأمر والجهات الحكومية المختصة، للتأمل في هذا الموضوع، ووضع تشريعات وأنظمة تضمن رعاية صحية أشمل وأوسع للجميع.
تمييز مستويات التأمين الصحي ليس مجرد مسألة “امتيازات إضافية” بل يمس صميم العلاقة بين الموظف والمنشأة. وكذلك الآثار النفسية والمعنوية تنعكس إلى حد بعيد على الأداء المؤسسي، فيقل ولاء الموظفين، ويضعف الحماس، ويزداد التوتر.
ولضمان بيئة عمل صحّية ومنتجة، لا بد من اعتماد سياسات تأمين عادلة وشفافة تُظهر احترام المنشأة لجميع موظفيها على حد سواء.
ختامًا، لا ينبغي أن يُعامل التأمين الصحي كامتيازٍ يُمنح أو مكافأةً، بل كحقٍ أساسيٍّ، ويقع في صميم قيم العدل والكرامة الإنسانية.
لذلك، ندعو قيادات المنشآت والجهات الحكومية المعنية إلى تبني سياسات تأمين صحي شاملة وشفافة، تضمن لجميع الموظفين وأسرهم مستوىً أفضل في الرعاية الصحية، وفتح مجالات أوسع للوصول للمستشفيات ومراكز الرعاية الصحية كافة وبعيدًا عن أي اعتبارات طبقية وظيفية. فالالتزام بهذا المبدأ ليس رفاهيةً إضافية، بل استثمارٌ في صحة المجتمع واستدامة الإنتاجية والولاء المؤسسي ودعم سبل الاستقرار المجتمعي بشكل عام.
اقرأ كذلك : مقترح فرض رسوم على التعليم الجامعي