شقاء على البشر عدم استخدام العقل، بسبب التسليم لثقافة جامدة ونسق قائم لمجرد أنهم وُلِدُوا وتربوا عليه.
فبدون طرح أية أسئلة، لا توجد إجابات، ولن توجد حلول وسوف تظل المشكلات قائمة وتتعقد أكثر.
إذن لن نميز يومًا الصواب من الخطأ، كفهم وقناعة وليس كقالب فكري يفرض نفسه على واقعنا إلا من خلال منح العقل وظيفته وهي التفكير، بدلًا من قالب فكري وثقافي يفرض نفسه على الواقع حتى لو تصادم معه، وشوَّه قيمنا ومواقفنا الإنسانية، وعطل طاقتنا وإمكانيتنا.
العقل أيضًا شقاء، ولكنه شقاء بالاتجاه الصحيح.
فاستخدام العقل يقود إلى طرح الأسئلة، وبالتالي الوصول إلى إجابات مختلفة، التي طالما وصل فيها الإنسان إلى ما يعتقد أنه صواب أو يقترب من بعضها، أو منها جميعًا أو يبدل مواقعه بينها.
أما الرضوخ والتسليم للنسق السائد ممن لا يتسم باستقلالية التفكير، فقد يعني التنازل عن مجموعة قيم ومبادئ أي مجموعة القناعات الإنسانية والفطرية، كون ممارسة هذه القناعات قد يؤدي إلى تقديم بعض تضحيات في العلاقة مع الواقع المحيط به.
هنا لدينا إنسان أمام مفترق طرق قلق، إما التنازل عن قناعات تتشكل بفردانية تفكيره ووعيه، أو تقديم تضحيات.
أما إذا أصبحت هذه القناعات المتشكلة بمعزل عن التقليد أكثر رسوخًا فباتت هي المكون لوعي وثقافة وتفكير هذا الإنسان، أي أنها مجموعة قيم الصواب والخطأ مع أنها مثل جميع القيم هي نسبية، ولكنها في لحظات زمنية قيمًا راسخة لديه فقد ينجح في تجاوز مسألة التردد أمام المجتمع.
المشكلة لا تكمن في الاختلاف، لأنه قدر طبيعي في هذه الحياة وهو إيجابي في مجمله، من يحول هذا القدر إلى قدر موجع ومؤلم بل ومدمر هم البشر، فلا أحد يستطيع أن يلغي عقل إنسان، ولا من لحظات استقلالية التفكير وتلقي مصادر ثقافته وأفكاره، فالله عز وجل هو الذي خلق العقل، وما دام لم يستخدمه أحدٌ في إيذاء الآخرين ولا مصادرة خياراتهم ووعيهم فلا يحق لأحد محاكمته.
مشكلة هكذا نسق اجتماعي يمارس ثقافة جامدة يركن إليها، أنه لم تسعفه تجارب الحياة في صقل حياته وطرائق التعايش بسلام مع الآخرين، عندما وجد نفسه وسط مجموعة من قيم وتصورات أصبح يظن أنها صحيحة تمامًا، وأن كل شيء لديه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولو أن هذا المجتمع أصبح أكثر استخداما للعقل وأكثر بحثًا عن الحق في دينه متجردًا من نسقه السائد، فأتصور أنه سوف يصل إلى حالة ملفتة من الذهول.
إن محاولات الفكاك من حالة الجمود والانتقال إلى التفكير والمراجعة ليس بالضرورة تقود في كل مسألة وقضية إلى ما هو صواب مطلق، بل إلى ما نعتقد أنه صواب أو أقرب إليه، لذا فاستخدام العقل قد يكون أمرًا له تداعيات فكرية وأخلاقية ولكنه يظل حتما سيرًا في اتجاه التقدم وتطوير مضطرد ومحاولات مستمرة لفهم أسباب التخلف، وانحسار قيم الحق والعدالة، وتفشي الفساد والظلم، وغياب الشعور الجمعي تجاه مختلف القضايا، والانتقال من مفهوم وحدة الأخلاق في السلوك الشخصي إلى وحدة القيم التي تنعكس على المجموع ووحدة القضايا والهموم المشتركة سواء اجتماعية أو وطنية.
احترام المختلف، واحترام إرادته وخياراته ما دام أنها تتم في حيزه الخاص، ولا تتضمن اعتداءً على أحد هي الحل لكثير من المعضلات، فهي العامل الذي يُحِيل هذا الاختلاف من كونه مدمرًا إلى عامل بناء، فالتنوع الثقافي والفكري في المجتمعات الأكثر تقدمًا هو ذخيرة هذا التقدم، وهو ذاته أدوات الهدم في المجتمعات الأكثر تخلفًا.
فالاختلاف والتنوع لم يهزم دينًا ولا قيمًا، ولم يخلق أمة مهزومة، بل البشر في سلوكياتهم المتطرفة والمتشددة هم الذين شوهوا دينًا، وخلقوا أمة مهزومة ساعدت بعض الظروف أن يكون لهذا السلوك مؤسسات دينية سياسية تنتجه وتنتج معه قنابل فكرية توجه ضد الوطن والسلطة والمؤسسات المنتجة أساسًا لهذا الفكر، مكنت هذه القوى الظلامية أن تحظى بفرصة تمسك فيها بنواصي أمة بحجة حمايتها وحماية ما تظن أنه ثوابتها، فإذا بها تجعلها في مؤخرة هذا العالم، وفي الصفوف الخلفية من طوابير الأمم، فيصبح التخلف والرجعية وظلم الإنسان وقهر المرأة أحد ثوابتها، ويصبح كوننا الأمة المهزومة سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا وعسكريًّا هو النتاج الحتمي للسقم الفكري المتمثل في الدفاع عن أوهام الخصوصية وثوابت الأمة التي باتت ثوابت للهزيمة والتقهقر.
العقل نعمة عظيمة حولوه إلى لعنة، فكبلوه بالأغلال وجعلوا منه مستودعًا لأفكار جامدة تنظر بعين الذهول والحيرة إلى المتغيرات والتحديات حولها وهي عاجزة عن أن تكون فاعلة سوى ردود فعل تتخندق في جمودها الفكري والثقافي وتدافع عنه، لأن هذا العقل لا زال يظن أن تلك الأفكار الجامدة هي المنقذ، بينما هي التي تقوده للتقهقر أكثر لتكون أمته مهزومة أكثر ويهزم في داخلها الإنسان.
فالعقل إذا تحول إلى مجرد مخزون لتلقِّي قيم ثابتة، واستيعاب كل شيء كحقائق مطلقة ومسلمات فَقَدَ قدرًا هائلًا من قيمته التي لأجلها خلقه الله عز وجل. ويفقد معها المجتمعُ فُرَصَهُ التاريخية للتطور والتقدم، وبالتالي القدرة على الفهم الواعي لكافة القضايا، لأن كل شيء بات محسومًا بصوابه وخطئه الثابت المتوهم منه والنسبي.
العقل يُحدِث التحولات لدى صاحبه، عندما يصبح العقل لديه عقلًا مفكرًا متدبرًا، عندما يؤدي وظيفته التي لأجلها خُلِق، عندما يتحمل المسؤولية أمام ربه ثم أمام نفسه وأمام الإنسانية بتوظيف هذا العقل للغاية التي لأجلها خلقه الله. إن التفكير يقود للذهول والدهشة وبالتالي مواصلة البحث وتعرُّض الإنسان لصدمات وهو يلمس واقعًا كما هو فتتجرد لديه الحقائق، وينظر للواقع بعين مختلفة، تصبح كثير من الأشياء عارية، تتكشف التناقضات، قد تتسع الفجوات بين هذا الإنسان وبين مجتمعه، ولكنها فجوة تقود للارتقاء والرضا والسلام النفسي.
إن النسق السائد يقف بتحفُّز أمام العقل، وأمام تنامي محاولات أنسنة الحياة والمجتمع؛ فيُعْمِل رماحَه وسكاكينه لتطعن، لن تقتل ولن تعيق لأن القيم والمبادئ والقناعات لا تموت بسهولة، ولكنَّ الدم سوف يظل ينزف ويلوث الحياة من حولنا، ووسط ضجيج الصراع سوف تظل القناعات ليست حية لا تموت فحسب بل تزداد رسوخًا وتنشر بذورها وسط المواجهة.
فمحاولات العيش بحب وسلام، أمر يبعث على الراحة والثقة في حياة أجمل.
جميعنا في هذه الحياة متورطون في الخطأ، والفرق الذي يجعل خطأً عن آخر أشد فظاعة أو جرمًا في ذهنية الفرد والمجتمع هو اللون الذي رسم صور الأشياء في عقولنا، فوصل إلى حد تشويه الأشياء الجميلة، أو تجميل الأشياء القبيحة، لذا نحتاج أن نزيل الألوان عن كثير من الأمور في حياتنا، أن نجعلها عارية أمامنا من الألوان، حتى نراها كما هي، أن نرى المشاهد والمواقف والحياة برمتها بدون مؤثرات، أن نحاول إعادة صياغة أفكارنا، أن نمسك بكل فكرة مسبقة ونحاول فهمها بشكل صحيح، أمر مريع أن يموت الإنسان مخدوعًا، والحقيقة أن أحدًا لم يخدعه، بل هو الذي خدع نفسه عندما سلَّم عقله لغيره، أو منحه لنسق قائم ليشكله له.
إن إزالة الغبار عن العقل، ومحاولة الخروج من بوتقة فكر تقمَّصه الإنسانُ كثيرًا وتشرَّبه تلافيف عقله، ليست بالعملية السهلة هي تتطلب شجاعة وقدرة كبرى على تفكير أعمق حول كثير من القضايا.
أنها المسؤولية التي على عاتق الإنسان أمام نفسه، وأمام مجتمعه، وهي مسؤولية العقل، والذي هو مسؤولية الإنسان، فلا يجوز -بل من الخطأ الفادح- أن يُترَكَ مُعرَّضًا لتشكيل مكنوناته الفكرية والثقافية من قِبَل الآخرين، إنها جريمة تقتل الإنسان حيًّا، إنه انفصال وانفصام وفجيعة يموت فيها العقل حيًّا، يعيش أسيرًا مسلوب الإرادة لإن إرادة العقل هي التفكير والاختيار واتخاذ القرارات.